مسلمو ليبيريا.. نابليون الأفريقي يبحث عن عودة
ليبيريا وقعت فى براثن الحرب الأهلية
العالم كله يتحدث عن ليبيريا والحرب الأهلية المحتدمة بها، ولكن لا أحد يشير ولو بالتلميح إلى موقع المسلمين في معادلة الحرب والسياسة في هذا البلد القابع بأقصى القارة الأفريقية؛ فقليل -حتى في العالم الإسلامي- من يعرف بأن ربع سكان ليبيريا مسلمون، وأنهم أقاموا حضارة كبيرة، وكانت لهم أمجاد استمرت أربعة قرون!
خصوصية انتشار الإسلام في ليبيريا
انتشر الإسلام في دول غرب أفريقيا -وخاصة غينيا، وغينيا بيساو، وسيراليون، وليبيريا، وساحل العاج- بصورة خاصة وبطريقة مختلفة عن غيرها من البلاد؛ إذ كانت العديد من القبائل تعتنق الإسلام ثم سرعان ما تخلط بين الإسلام والممارسات الوثنية عندما يتضاءل وجود الدعاة ويضعف تأثيرهم، ليرتدوا ثانية للوثنية، ثم يأتي من ينشر الإسلام بينهم من جديد... وهكذا.
ففي القرن العاشر الميلادي توجه عدد من دعاة دولة المرابطين ببلاد المغرب إلى جنوب الصحراء لنشر الإسلام بين القبائل الوثنية، وبالفعل تمكن الشيخ "عبد الله بن ياسين" من إقناع ملك السنغال "ور-جاي" باعتناق الإسلام فأشهر إسلامه وتبعه العديد من قبائل مملكته، وعلى رأسها قبائل الماندنيجو والفولاني والسوننكي.
وتحمست القبائل المسلمة لنشر الإسلام؛ فأخذت قبائل الفولاني التي كانت تقطن مرتفعات فوتاجاللو (بغينيا حاليا) في الانتشار شرقًا باتجاه نيجيريا، حيث نشرت الإسلام وأسست عدة دول إسلامية أخذت في ضم الممالك والإمارات الوثنية ونشر الإسلام فيها، خاصة في الشمال.
أما قبائل الماندنيجو فانتشرت ناحية الشرق وباتجاه الجنوب، واشتغل العديد من أبنائها بالتجارة، خاصة في المناطق الجنوبية فيما يعرف حاليا بغينيا وغينيا بيساو وسيراليون وليبيريا ومالي. وعرف عن تجار الماندنيجو المسلمين شدة الحماسة للإسلام. وقد أسس تجار الماندنيجو المسلمون مراكز لهم في مرتفعات فوتاجاللو شمال ليبيريا ونشروا الإسلام على نطاق واسع بين قبائل مملكة غانة الوثنية. وعندما ضعفت مملكة غانة تمكن الماندنيجو من تأسيس دولة صغيرة أسموها "ملي أو مالي"؛ سرعان ما توسعت في القرن الثالث عشر نحو الشمال الشرقي لتسيطر على مدينة "تمبكتو" الواقعة بدولة مالي حاليا.
وعندما ضعفت دولة مالي نشأت دولة "صوكوتو" في الشرق منها واستولت على أملاك مالي، غير أنها لم تتمكن من إحكام سيطرتها على القبائل الوثنية قرب شاطئ الأطلنطي.
في حين أخذ بعض أبناء قبيلة الفولاني -التي أسست دولة صوكوتو- في الاتجاه جنوبا ليؤسسوا مستوطنات إسلامية في مرتفعات فوتاجاللو قرب ليبيريا، حيث كانوا يُحفّظون فيها القرآن، ويدعون القبائل الوثنية لاعتناق الإسلام. وظهر الشيخان "إبراهيم موسى" و"إبراهيم سوري" وأعلنا الجهاد على القبائل الوثنية، ولكنهما فشلا في تأسيس مملكة إسلامية؛ فأخذت القبائل تختار أربعة أشخاص يختارون الإمام، وبالفعل تأسست عدة إمارات إسلامية تمكنت من نشر الإسلام في جنوب غينيا وشمال ليبيريا، إلى أن ظهر الفقيه سليمان وأسس دولة إسلامية قبل وفاته عام 1869، وضمت قبائل الماندنيجو والسوننكي.
ولكنها سرعان ما انهارت إلى أن ظهر الإمام ساموري بن لافياتوري 1830 - 1900 الذي تعلم فنون القتال وسط جيش من الوثنيين كان قد أسره صغيرا مع أمه قبل أن يكبر ويتمكن من الهرب، حيث استطاع أن يؤسس إمامية (إمارة) ساموري عند نهر النيجر، ويتمكن من توسيع حدود الدولة حتى شملت شمال ليبيريا، وكان يستورد الأسلحة النارية من سيراليون وجنوب ليبيريا التي كانت بها دولة مستقلة آنذاك.
وأثناء حكمه عرف عن الإمام ساموري الحرص على بناء المساجد، وإعطاء الجوائز للصبية الذين يحفظون القرآن، ورغبته في التوسع لنشر الإسلام لولا أن وقفت مرتفعات فوتاجاللو عائقا كبيرا في سبيل اندفاع الإسلام جنوبا ليعم كل ليبيريا.
تزامن مع إمامية ساموري الإسلامية حدثان كبيران أثّرا على انتشار الإسلام في ليبيريا، حيث أخذ الأمريكيون منذ عام 1822 في إعادة بعض العبيد السود المحررين إلى سواحل ليبيريا الذين سرعان ما أعلنوا عام 1847 قيام دولة ليبيريا (أرض الحرية).
ولم تكن نسبة عبيد أمريكا المحررين تتجاوز 1% من إجمالي السكان الوطنيين، لكنهم أخذوا -بدعم أمريكي- يمدون نفوذهم إلى الداخل، وتمكنوا من القضاء على ثورة القبائل الوثنية وقبائل الماندنيجو المسلمة بالأسلحة الأمريكية الحديثة، وبمساعدة سفن الأسطول الأمريكي، ووضعوا دستورا على النمط الأمريكي، حيث ينتخب الرئيس كل عامين هو ونائبه، كما أسسوا مجلسين للنواب والشيوخ، واعتمدوا الإنجليزية لغة رسمية للبلاد، واعتبروا أن هدفهم هو إقامة مملكة المسيح في أفريقيا، فصارت الكنائس الليبيرية تابعة للكنائس الأم في الولايات المتحدة، بل كان رؤساء ليبيريا حتى عام 1980 من الأساقفة، وعملت هذه الأقلية -مدعومة بحركات التبشير التي انهالت على أفريقيا- على نشر المسيحية في كل ربوع ليبيريا.
في ذات الوقت لم تتمكن إمامية ساموري من مساعدة المسلمين جنوب مرتفعات فوتاجاللو؛ إذ اندلعت الحروب بين الإمامية الإسلامية والفرنسيين لمدة 16 عاما (1882-1898) وخاضها الإمام ساموري ببسالة، وأبدى فيها مهارات حربية وقتالية فائقة حتى أطلق عليه الفرنسيون "نابليون بونابرت الأفريقي"، ولكنه هزم في النهاية؛ ففر إلى ليبيريا، حيث تم القبض عليه، ونفي إلى الجابون التي بقي فيها حتى وفاته عام 1900.
مسلمو ليبيريا في القرن العشرين
مع سيطرة الفرنسيين على البلاد الإسلامية المحيطة بليبيريا (غينيا وكوت ديفوار [ساحل العاج])، وسيطرة البريطانيين على سيراليون، وسيطرة السود الأمريكيين على إقليم الساحل أصبح مسلمو ليبيريا بين شقي الرحى؛ حيث عمل الاستعمار الفرنسي على إغلاق المدارس الإسلامية وتصفية علماء المسلمين في البلاد المجاورة لليبيريا للقضاء على أي قلاقل محتملة. في الوقت الذي كانت تنهمر فيه البعثات التبشيرية على دول غرب أفريقيا، وكانت ليبيريا من أهم مراكزها، فسيطر المنصّرون على 80% من مدارس ليبيريا، في حين خضعت النسبة الباقية لسيطرة حكومة السود الأمريكيين؛ الأمر الذي أدى إلى انتشار الجهل والفقر بين المسلمين من قبائل الماندنيجو والبامبرا والسيري والفولاني، وحرموا من التعيين في الحكومة التي سيطر عليها السود الأمريكيون تماما.
وقد انعكس هذا الأمر حتى على معرفة المسلمين بأمور دينهم؛ فتزوجوا بأكثر من أربع، وجمعوا بين الأختين، وباتت كل قبيلة تطبق الشريعة الإسلامية حسب معرفتها بها؛ وإن ظل الشعور الإسلامي قويا، خاصة مع انتشار الطرق الصوفية وعلى رأسها القادرية، وهو ما ظهر في نهضة المسلمين من قبائل الماندنيجو والفولاني لمقاومة الاحتلال الفرنسي في البلاد المجاورة.
وتصادف أن تبنى الرئيس وليام توبمان (1941 - 1971) سياسة منفتحة تجاه السكان الوطنيين من المسلمين والوثنيين؛ فسمح لأصحاب الأملاك منهم بحق الانتخاب لأول مرة، كما سمح لهم بتولي الوظائف الحكومية؛ وهو ما نتج عنه تأسيس المسلمين للمجلس الإسلامي الليبيري عام 1960. وتدريجيّا أخذ وضع المسلمين في التحسن خاصة بعد تولي الرئيس ريتشارد تولبير 71-1981 الحكم؛ إذ عرف بضعف الشخصية وارتخاء قبضته على النظام الذي كان قد استشرى فيه الفساد بصورة كبيرة، فعاشت البلاد حالة من عدم الاستقرار سمحت بحركة للتيارات والقوى الشعبية المختلفة، فأخذت المظاهرات تعمّ البلاد للمطالبة بالمساواة مع السود الأمريكيين، وزاد من صخبها ازدياد المد الاشتراكي والشيوعي في أفريقيا آنذاك ووجود قيادات وطنية متعلمة تطالب بالتمرد على السود الأمريكيين، ثم اندلعت مظاهرات عنيفة عام 1979 على أثر رفع أسعار الأرز.
المسلمون والمعادلة الصعبة
فشلت الحكومة في فرض سيطرتها على البلاد وانتشرت الفوضى في كافة أنحاء ليبيريا فهاجم صمويل دو (وكان عسكريا برتبة شاويش!) وبرفقته 15 جنديّا من القصر الرئاسي الرئيس تولبير وذبحوه أمام عدسات التلفزيون، وسيطروا على الإذاعة لتبدأ مرحلة جديدة في تاريخ ليبيريا؛ إذ إن الرئيس الجديد لم يكن من السود الأمريكيين وإنما من قبيلة الكران المحلية، وأعلن تأسيس الجمهورية الثانية تحت شعار الحكم للأكثرية، وهكذا تم استبعاد السود الأمريكيين من الحكم لأول مرة.
غير أن الاضطرابات والحروب بين القبائل استمرت فعقد صمويل دو تحالفا بين قبيلته التي تضم بعض المسلمين وقبيلة الماندنيجو ذات الأكثرية المسلمة ووزع عليهم السلاح.
في ذلك الوقت أخذ نفوذ التيار الإسلامي يتسع في العالم الإسلامي، وساهم ثراء دول الخليج بعد اكتشاف البترول في تقوية مركز المسلمين في دول غرب أفريقيا، وهو ما عاد بالإيجاب على مسلمي ليبيريا الذين زادت فيهم الروح الدينية، ومن مظاهرها ازدياد أعداد الحجاج الذين وصلوا إلى 230 حاجا لبيت الله الحرام العام الماضي (2002).
تورط صمويل دو في خصومات مع معارضيه كما قامت قبيلته الكران باضطهاد القبائل الأخرى، ومن بينها قبائل المسلمين التي انحاز بعضها لمساعدة تشارلز تايلور عند تسلله من ساحل العاج إلى ليبيريا مع 40 مقاتلا عام 1989 للإطاحة بالرئيس دو الذي أعمل القتل في قبائل الماندنيجو المسلمة وغيرها من القبائل؛ وهو ما أثار ضده المسلمين فانضموا لتايلور الذي سيطر على 60-90% من البلاد، ولكنه فشل في السيطرة على قواته التي أخذت في نهب وسلب القبائل، وعلى رأسها الماندنيجو المسلمة التي انشقت عليه لهذا السبب بقيادة الحاج كروماه الذي اعتقلته قوات منظمة غرب أفريقيا "الإيكواس" بسبب رفضه حضور محادثات السلام!
ثورة المسلمين
شعار ليبيريا
وبعد عدة جولات من الحروب الأهلية اتفق المتحاربون على إجراء انتخابات عام 1997 فاز فيها تايلور.
اتبع تايلور سياسة مناهضة للمسلمين بسبب سعيه الدءوب لنشر المسيحية بينهم حتى تكون الدولة متجانسة، حيث قام بالتضييق على زعماء المسلمين وهو ما اعتبروه مخططًا لضرب الإسلام وتهميش المسلمين، كما قامت قواته بقتل عدد من أفراد قبيلة الماندنيجو المسلمة؛ وهو ما دفع المسلمين الماندنيجو إلى تشكيل "الحركة الليبيرية المتحدة" من أجل المصالحة الديمقراطية بقيادة محمد جوماندو، وتحالف معهم بعض المنشقين عن تايلور من غير المسلمين، فيما كوّنت قبائل أخرى قواتها الخاصة التي يتراوح عددها من 7 إلى 25 ألف مقاتل، واستطاعت الحركة السيطرة على أجزاء كبيرة من ليبيريا وصلت منروفيا وطالبت تايلور بالاستقالة؛ فاتهم غينيا بمساعدة ما أسماه بـ"الإرهابيين الإسلاميين"، لكنه رضخ في النهاية واستقال في أغسطس 2003 تحت الضغوط المحلية والدولية.
مسلمو ليبيريا.. الواقع والتحديات
يشكل مسلمو ليبيريا ما يقرب من ثلاثة أرباع مليون نسمة تقريبا، يمثلون 25% من إجمالي تعداد سكان ليبيريا البالغ 3 ملايين نسمة، ويشكل المسيحيون 10%، بينما يدين 65% بالوثنية وعقائد متباينة؛ وهو ما يجعل المسلمين أقلية كبيرة ومتجانسة نسبيّا مرشحة لأن تكون قوة كبيرة في البلاد، لكن أسبابا كثيرة أضعفتهم، في مقدمتها انتشار الفقر والجهل بين القبائل المسلمة التي لا تمتلك سوى مدرسة أهلية واحدة كانت قد أسستها رابطة العالم الإسلامي من ثلاثة طوابق لتعلم القرآن واللغة العربية، بينما يسيطر المبشرون على معظم المدارس الأخرى التي يرفض معظمها إلحاق المسلمين بها، وتشترط اعتناق المسيحية مقابل التعليم بالمجان، ولا يمتلك المسلمون أي مستشفيات خاصة بهم.
هناك أيضا مشكلة قلة عدد المسلمين بالعاصمة منروفيا، حيث لا يتجاوزون 15 ألفا ولا يمتلكون سوى 5 مساجد فقط، بينما يبلغ عدد الكنائس 43 كنيسة.
ومن العقبات أيضًا شدة التغلغل الأمريكي والإسرائيلي في البلاد ومحاربته للمسلمين، حيث توجد بليبيريا أكبر محطة تجسس أمريكية في أفريقيا، كما تحتكر شركة "فاير ستون" الأمريكية محصول المطاط الذي يشكل جزءًا كبيرًا من صادرات ليبيريا منذ عام 1926 ولمدة 99 عاما، ويتركز الاقتصاد الليبيري كله في يد الغرب وخاصة أمريكا.
وترتبط ليبيريا بعلاقات ودية مع إسرائيل منذ عام 1961 وزارها الرئيس توبمان عام 1962، وتحتفظ بتمثيل دبلوماسي معها، حيث يقوم سفير إسرائيل بكوت ديفوار (ساحل العاج) بأعمال بلاده بالعاصمة الليبيرية منروفيا.
ومؤخرا بدأت أوضاع المسلمين في التحسن في ظل جوارهم دولا ذات أكثرية إسلامية مثل غينيا وسيراليون وظهور بعض القيادات القوية مثل السيد محمد كروماه رئيس اتحاد الروابط الليبيرية الأمريكية، كما أسس المسلمون منظمتين إسلاميتين بمنروفيا هما: المنظمة العربية للدراسات ومهمتها نشر الدعوة بين غير المسلمين، والمنظمة الإسلامية للتعليم التي أنشأت مركزين لتخريج الأئمة وتعليم القرآن الكريم واللغة العربية للمسلمين الجدد، وتوفير مصدر دخل لهم في ظل وضعهم الاقتصادي الجديد. ولكن يبقى اهتمام الجماعات الإسلامية والمنظمات الإسلامية بمسلمي ليبيريا ضعيفًا ولا يوازي ما ينتظره القائمون على نشر الإسلام في غرب إفريقيا
السلام عليكم ورحمة الله